8- قائد لا يؤاخذ الناس بالظن والتهمة ولا يبتغي الريبة في الرعية
كان- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- من شدة شفقته كقائد يرفض أن يؤاخذ الناس بالظن، أو يعاقبهم على مجرد التهمة، ليس هذا فقط، ولكنه يدعو القائد والحاكم ورئيس الأمة وكل قائد على أي مستوى.. الأب مع أبنائه، والمدير في مصنعه، وكل من يلي أمرًا من أمور المسلمين، إلى عدم تتبع عورات الناس أو ابتغاء الريبة والتهمة في الرعية، حتى لا تفسد الرعية.
روى عدد من الصحابة والتابعين عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم" (الحديث عن جبير بن نفير، وكثير بن مرة، وعمرة بن الأسود- رحمهم الله- وعن المقدام بن معد يكرب وأبي أمامة- رضي الله عنهم- أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في النهي عن التجسس 4/ 272 (4889)، وأحمد (23815)، وغيرها).
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم".
فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم نفعه الله تعالى بها" (أخرجه أبو داود في الموضع السابق (4888)، والبخاري في الأدب المفرد، ص 96 (248) وغيرهما).
قال العلماء: إن الأمير إذا ابتغى الريبة- أي طلب الريبة؛ أي التهمة- في الناس بنية فضائحهم أفسدهم وما أمهلهم، وجاهرهم بسوء الظن فيهم، فيؤديهم ذلك إلى ارتكاب ما ظن بهم ورُمُوا به، ففسدوا.
ومقصود الحديث: حثُّ الإمام على التغافل وعدم تتبع العورات؛ فإن بذلك يقوم النظام ويحصل الانتظام، والإنسان قلَّما يسلم من عيبه؛ فلو عاملهم بكل ما قالوه أو فعلوه اشتدت عليهم الأوجاع واتسع المجال، بل يستر عيوبهم، ويتغافل ويصفح، ولا يتتبع عوراتهم، ولا يتجسس عليهم.
وكذلك فإن الأمير إذا تتبع ما أمر الله تعالى بترك تتبعه امتثل الناس ذلك منه، وفعلوا مثل فعله، فكان في ذلك إفسادهم؛ فالأمير عندما يعامل الناس على أساس أنهم جميعًا يتآمرون عليه، فإن سيتجسس ويتنصت ويضع العيون هنا وهناك، وهو بذلك يفسد الناس؛ لأنه في هذه الحالة ستجد منافقًا يريد أن يتقرب منه، ويقول له فلان يشتمه، وهو كاذب، وسوف يصدقه الأمير؛ لأنه يريد أن يسيطر على جميع الناس، فيصبح المجتمع عبارة عن مجموعة منافقين يضرب بعضها بعضًا، فيفسد المجتمع!! ويصير مجتمعًا ينظر إلى القائد نظر الطير إلى الصائد، والعكس؛ فيصبح القائد يتعامل مع شعبه تعامل من يريد أن يوقعه في حفرة!! فيفسد المجتمع!!.
وبهذا عمل خامس الخلفاء الراشدين حين عَيَّن أميرًا على الموصل، فرأى كثرة السُّرَّاق بها، فكتب إلى عمر يقول: "هل آخذهم بالظنة وأضربهم على التهمة؟ أم آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة؟".
يرى هذا الراعي أو هذا الوالي أنه لو عامل الناس بالحق والعدل والقانون وما في كتاب الله وسنة رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فإن ذلك سيطمع بعض النفوس الضعيفة في أن تعدد سرقاتها ويتعدد فسادها، ويعرض له بأن لو أنه أخذ الناس بالشدة ولو أخذهم بالتهمة ولو أخذ كل مشتبه فيه لكان هذا سبيلاً ناجحًا لإصلاح الناس في البلد، فكتب إليه عمر- رحمه الله-: "خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة؛ فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله".. يقول هذا الوالي: "ففعلت ذلك، فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقًا ونهبًا (أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء).
فإن بدا له- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- شيء بالأدلة القاطعة والبينات الواضحات عاقب صاحبه، وبالعقوبة الشرعية دون زيادة، وإلا لم يقبل الظن أيًّا كان، ولعل بعض الناس تحوم حوله قرائن كثيرة من الشك، ومع ذلك يرفض النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أن يؤاخذهم بهذه الظنة، أو أن يعاقبه على التهمة.
فعن عبد الله بن عدي الأنصاري أن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بينما هو جالس بين ظهراني الناس إذ جاءه رجل يستأذنه فسارَّه- زاد في رواية: فلم يدر ما سارَّه به حتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فإذا هو يستأذنه- في قتل رجل من المنافقين، فجهر النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بكلامه، وقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟!"، قال: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، قال: "أليس يشهد أني رسول الله؟!"، قال: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، قال: "أليس يصلي؟!" قال: بلى، ولا صلاة له، فقال النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-:"أولئك الذين نهيت عنهم" (الحديث صححه ابن حبان (5371)، وأخرجه مالك في الموطأ عن عبيد الله بن عدي بن الخيار مرسلاً في كتاب قَصْر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة ص 171 (84)).
بل يرفض أن يتغير صدره على رعيته، ويقول للذي يأتي إليه ليبلغه أن فلانًا قال كذا أو فعل كذا مما قد يوغر صدره، ويغير قلبه على رعيته: "لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" (أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس 4/265 (4860)).
9- قائد يأسف لإنزال العقوبة بأحدٍ من الرعية
كان- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- حين يضطر إلى إيقاع العقوبة بمسلم ارتكب خطأ أمام الناس فشهد عليه الشهود، يظهر على وجهه الأسف والغضب، كما حصل عند أول مرة قطع فيها سارقًا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ أتي بسارق فأمر بقطعه، وكأنما أسف وجه رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: قالوا: "يا رسول الله.. كأنك كرهت قطعه!" قال: "وما يمنعني؟!.. لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم!، إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد أن يقيمه.. إن الله عز وجل عفوٌّ يحب العفو ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾ (النور: من الآية 22)" (أخرجه أحمد (4168)، 419 (3977)، وصححه الحاكم 4/ 424 (8155))، وفي روايةٍ قال: "وكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: "ذُرَّ عليه رماد".
صلى الله عليك يا رسول الله!.. يغضب مع أنه يقيم حدًّا من حدود الله، ولكنه- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- كان حريصًا كقائد على أن تكون رعيته على الوجه المطلوب.
وهذا ما كان يفعله كبار الصحابة- رضي الله عنهم- من الأئمة الخلفاء؛ فأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: "لو أخذت شاربًا لأحببت أن يستره الله، ولو أخذت سارقًا لأحببت أن يستره الله" (أخرجه ابن شيبة 5/ 474 (28082)، وابن سعد في الطبقات الكبرى 5/13، وصحح ابن حجر إسناد بن أبي شيبة في الإصابة 2/629).
10- قائد ينصف ويدعو إلى القصاص من نفسه
كان- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يعرض نفسه إلى الاقتصاص منه إذا حصل شيء يوجب القصاص منه، فعن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يُقِصُّ من نفسه" (أخرجه النسائي في كتاب القسامة، باب: القصاص من السلاطين 8/34).
ومن ذلك ما وراه عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرة بن حزم الأنصاري، أن رجلاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ممن شهد معه حنينًا قال: إني والله لأسير إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- على ناقة لي، وفي رجلي نعل لي غليظة، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فأوجعه، قال: فقرع قدمي في السوط، وقال: "أوجعتني فأخِّر عني" قال: فانصرفت، فلما كان من الغد إذا رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يتلمسني، قال: قلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالأمس.
قال: فجئته وأنا أتوقع- يعني يتوقع أن يعاقبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فقال لي: "إنك قد كنت أصبت رجلي أمس بنعلك فأوجعتني، فقرعت قدمك بالسَّيوط، فدعوتك لأعوضك"، قال: فأعطاني رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني" (أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق 1/ 123 (408)، والطبري في التاريخ 2/176، بسند صحيح إلى ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر به، فإن كان عبد الله سمعه من هذا الصحابي- وهو محتمل- فالإسناد صحيح).
وفي روايةٍ أنه- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال:"بسم الله، أوجعتني"، يقول هذا الصحابي: فبت لنفسي لائمًا أقول: أوجعت رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-! قال: فبت بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول: "أين فلان؟" قال: قلت: هذا والله الذي كان مني بالأمس! قال: فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني، فنفحتك بالسوط، فهذه ثمانون نعجة فخدها بها" (أخرجه الدرامي في المقدمة، باب: سخاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم 1/ 48 (70)).
فهل رأيتم مثل هذا الإنصاف- بل الإكرام- لآحاد الرعية أيها العقلاء؟!، بل كان- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في غاية الحرص قبل لحاقه بالرفيق الأعلى أن يقتص منه كل من يرى له حقًّا عنده، ويكرر ذلك على الناس، ويدعوهم إلى عدم التخوف من أن يتغير عليهم قلبه، ويدعو أصحابه والأمة كلها- وفي القلب منها أمراؤها- إلى ذلك.
فعن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: جاءني رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فخرجت إليه، فوجدته موعوكًا قد عصب رأسه، فقال: "خذ بيدي يا فضل"، فأخذت بيده حتى انتهى إلى المنبر، فجلس عليه، ثم قال: "صح في الناس" فصحت في الناس، فاجتمع إليه ناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس.. ألا إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليَسْتَقِدَّ منه، ألا ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليَسْتَقِدَّ منه، ألا لا يقولن رجل: إني أخشى الشحناء من قِبل رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقًّا إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس، ألا وأني لا أدري ذلك مغنيًا عني حتى أقوم فيكم مرارًا".
ثم نزل فصلى الظهر، ثم عاد إلى المنبر فعاد لمقالته في الشحناء وغيرها، ثم قال: "أيها الناس.. من كان عنده شيء فليرده ولا يقول فُضُوحَ الدنيا، وإن فُضُوحَ الدنيا أيسر من فُضُوحِ الآخرة"، فقام إليه رجل فقال: "يا رسول الله.. إن لي عندك ثلاثة دراهم"، قال: "أما إنا لا نكذب قائلاً ولا نستحلفه، فبمِ صارت لك عندي؟" قال: "تذكر يوم مرَّ بك مسكين، فأمرتني أن أدفعها إليه؟" فقال: "ادفعها إليه يا فضل"، ثم قام إليه رجل آخر فقال: "عندي ثلاثة دراهم كنت غللتها في سبيل الله"، قال: "ولم غللتَها؟"، قال: كنت إليها محتاجًا، قال: "خذها يا فضل"، ثم قال: "أيها الناس.. من حشي من نفسه شيئًا فليقم أدعو له" (أخرجه الطبراني في الكبير 18/ 280 (718)).
وفي روايةًٍ أنه- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أتى بيت عائشة، فقال للنساء مثل ما قال للرجال (أخرجه أبو يعلى (6824)).
أي قائد كان هذا النبي العظيم- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؟! وأي تعليم للقادة والحكام قدمه توجيهًا وتطبيقًا حتى لا يكون لأحدٍ على الله حجة من بعده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؟!.
تلك كانت بعض أخلاقه وسماته- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- كقائد؛ ولهذا نجح في إقامة أمة عظيمة كريمة استطاعت أن تفتح آفاق الدنيا، وعلى أثره سار الصالحون.. لم تكن القيادة عندهم تحطيمًا وتدميرًا، واستبدادًا واستكبارًا، وفرضًا للهيمنة بالقوة، بل كانت رحمة وعدلاً، وأخذًا بمجامع القلوب وأقطار النفوس باللين والحكمة.
أختم بتلميذ من تلاميذه.. بعمر بن عبد العزيز- رضوان الله تعالى عليه- هذا النموذج العجيب الذي أخذ هذه القدوة وطبَّقها، فصلحت الحياة على يديه، وأصلح الله في عامين على يدي عمر ما فسد في سنين كثيرة جدًّا.
هذا الخليفة الكريم العالم- رضوان الله تعالى عليه- كان واليًا على المدينة للوليد بن عبد الملك، وقد ساس أهلها سياسةً حسنةً صالحةً، وجاء الحجاج بن يوسف الثقفي- وكان واليًا على العراق- فدخل على أهل المدينة يسألهم عن عمر: كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه هيبةً له، قال: كيف محبتكم له؟، قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا، قال: فكيف أدبه فيكم- يعني تأديبه للرعية وعقابه للمخطئين-؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة، قال الحجاج: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه.. هذا أمر من السماء (مجموع الفتاوى 28/ 330).
إن الحجاج القائد الغشوم الذي لا يعرف شيئًا أقل من قطع الرقاب، والحبس بلا حساب، يرى نموذجًا عجيبًا جدًّا؛ تخرَّج في مدرسة القيادة النبوية الحكيمة العادلة، فيقول هذه المقالة، إي والله أمر من السماء.
وكل قائد قد يتبع هذا القائد القدوة- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في طريقته يكون أمره مؤيَّدًا من السماء.
نسأل الله العظيم أن نسير على سنته، وأن يُحييَنا على ملته، وأن يجعلنا من أهل شفاعته.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
-----------
* أستاذ الحديث بجامعة الأزهر