جاءها شاب باحثاً عن عمل وتجول في شوارعها وميادينها وأحيائها فنزل إلى مدينة نصر وأكتوبر فوجد مساحات شاسعة من الأراضي وحلّقت عيناه إلى المباني العالية الرائعة ووجد زحمة شديدة وانبهر الشاب بالقاهرة الساحرة الساهرة العابرة
جاء في خياله الأزهر والحسين والسيدة والقلعة والآثار القديمة ونيلها وطيبة شعبها وكل ما تحتوي الحبيبة القاهرة
فقرر في نفسه أن يعيش فيها ويبحث عن عمل ويبني نفسه حيث الفرص الكثيرة والعيشة الكريمة فبداخله آمالاً وطموحات كبيرة وهائلة والفرحة تملأه حيث يريد أن يتكلم مع كل الناس فيها
فقابل أحد المعمرين في أراضيها والعارفين بكل ما فيها قال له يا بني : لا تنبهر بها فهي القاهرة التي لم تعد قاهرة هي لم تعد لنا , هي لهم بكل ما فيها من أراضيها ونيلها وشعبها نحن الخدم نحن الحشم نحن العبيد للأسياد البيض يا بني : فيها الطبيب ابن الطبيب والقاضي ابن القاضي ورئيس المؤسسة يولي ابنه المؤسسة في حضرة الموظفين والعاملين أما مثلك ومثلي نسير بلا هوية ولا نعرف شيئاً عن أسرارها الخفية المال والجاه في يد العصبة القوية التي تتحكم فيك وفيّ وكل من في القاهرة الأبية
يا بني : هي لم تعد أرضاً ولا حضناً ولا وطناً ولا دفئاً فلا تنتظر منها شيئاً
فتعجب الشاب من كلام هذا العجوز القديم الذي يتكلم بثقة وكأنه كلام مبين فقال له الشاب : تتكلم عن ماذا ؟ أهذه هي القاهرة التي قالوا عنها أنها هي أم الدنيا ؟ هذه هي القاهرة التي حارب أهلها من أجل فلسطين والعاشر من رمضان وعين جالوت وحطين ؟ وجاءها صلاح الدين ليحارب الصليبيين وقطز في مواجهة التتار المعتدين
هذه هي القاهرة التي قال عنها رسولنا الكريم : فيها خير أجناد الأرض ففرح المسلمون وقتها بفتحها على يد القائد العظيم تتكلم عن ماذا ؟ تتكلم عن شيء آخر ؟ فشعبها معطاء أصيل لكل المجاورين من الأخوة والأحبة العرب المخلصين لا أصدق ما تقوله عنها هي في ذاكرتي هي في خيالي شيء آخر هي الحبيبة هي القاهرة هي الغالية العظيمة الرائعة وتظل القاهرة مهما فُعل بها سأظل أحبها وأحبها إلى يوم الدين
قال الرجل الحكيم يا بني : خبرتي جعلتني أنظر إليها نظرة المتحسر على شبابه في بلاد لا تقدر الإنسان ولا تقدر سوى الفنان والقصيدة المادحة القوية
يا بني : بلاد يبرز فيها القواد والجلاد ولا يبرز فيها صاحب الخلق والدين ومن ينادي بالرسالة السماوية فهو الإرهابي هو الوهابي لا بد وأن يحارب ويعتقل في سجونها العتيدة الخفية
يا بني : اشتكى الناس فيها غلاء المعيشة وإيجاد السكن فتجد الأب عاجز أمام زوجة وأولاد والشاب حيران بشهوة متأججة أمام كل الفساد أما عن حسرات الأمهات وعنوسة البنات ناهيك عن شباب العائلات على المقاهي لا يجدون ما كانوا يحلمون به فتم الإستيلاء على كل شيء حتى أصبحنا نعيش في أزهى عصور الرأسمالية فالعز والكمال والسرور هي سماتها الحالية للبعض الذين يريدون أن تسير كما هي
يا بني : حتى من ينتمي لها وهو خارجها لا يريد أن يأتيها ولا يذكرها حقيقة هو يحبها لكن لا يحب من فيها الذين يملكون المال والجاه والحكم بالقهر والغصب والكرباج والعصا القوية
أما الذين خرجوا منها فقرروا ألا يعودوا حتى لو ماتوا بالسواحل الإيطالية والتركية واليونانية فالموت في سواحلهم أكرم للإنسان من موتة في أرض مصر التي أتمنى أن أقول عنها هي بلدنا الوفية الناس يتمنون من أعماق قلوبهم أن يتركوها ويغادروها ويذهبون إلى أي مكان كان حتى لو كان مصيره خبر كان
يا بني : يؤسفني أن أقول لك هي لم تعد قاهرة ولا ساحرة ولا ساهرة ولا عابرة يا بني : قل عليها السلام واتل عليها آيات الرحمن لعل ربنا يحدث شيئاً
الأربعاء 18 يونيو 2008, 12:10 am